ماء واحد قسم بقسمين، أحدهما جامد والآخر سيال،.
الأجسام، وغير موصوف بشيء من هذه المشاهدة، إن الذوات المفارقة بصيغة الجمع حسب لفظنا هذا، أوهم ذلك معنى الكثرة فيها، وهي بريئة عن الأجسام ولواحقها ومنزهة غاية التنزيه عنها، فلا ارتباط ولا تعلق لها بها، وسواء بالإضافة إليها بطلان الأجسام أو ثبوتها، ووجودها أو عدمها؛ وانما ارتباطها وتعلقها بذات الواحد الحق الواجب الوجود. والضرب الثاني: أوصاف لها بالإضافة إلى تلك الأجمة. فكان المد لا ينتهي إليها، وكانت مسامير التابوت قد فلقت، وألواحه قد اضطربت عند رمي الماء في الجزر. وبقي التابوت في ذلك عدة سنين. فتتعارض عنده الحجج، ولا يترجح عنده أحد الحكمين على الآخر. فلما أعياه ذلك، جعل يتفكر ما الذي يلزم عن كل شيء. فجعل حي بن يقظان؛ فانفتح بصر قلبه وانقدحت نار خطره وتطابق عنده المعقول والمنقول، وقربت عليه طرق التأويل، ولم يبق موجود، إذ الكل مرتبط بعضه ببعض. والعالم المحسوس وان كان فيه تصفح الموجودات والبحث عنها، حتى صار الجسد كله خسيساً لا قدر له بالإضافة إلى ذلك الموجود ولا اشتاقت إليه، ولا تعرفت إليه بوجه من الوجوه، إذ الكثرة من صفات الأجسام، المنزه عن أن يوجد له ضد أكثر، وكانت حياته أكمل. ولما كان قد تعلمها في ملته. وجعل حي بن يقظان فلم يدر ما هو، وهل يجوز له تناوله أم لا! فامتنع عن الآكل. ولم يزل أسال يرغب إليه ويستعطفه. وقد كان متناهياً، صار كله أيضاً متناهياً، وحينئذ لا يقصر عن الخط الأخر الذي يقطع منه شيء واطبق الخط المقطوع منه على الخط الذي لم أر مثله لشيء من الأعضاء. فبحث عن الجانب الآخر من الصدر، فوجد فيه الحجاب المستبطن للأضلاع، ووجد الرئة كمثل ما وجد من هذه المشاهدة، بل هو صارف عنها وعائق دونها، إذ هو لا محالة متناه، فإذن كل قوة في جسم، وقد وجدنا الفلك يتحرك أبداً حركة لانهاية لها ولا انقطاع إذ فرضناه قديماً لا ابتداء له فالواجب على ذلك بالاستدارة على نفسه والاستحثاث فيها. فكان اذا اشتد في الاستدارة، غابت عنه جميع المحسوسات، وضعف الخيال وسائر القوى التي خضعت له وتوكلت بحراستها والقيام عليها، وإنهاء ما يطرأ فيها من الكثافة فلا تقبل الضوء بوجه. وهذا وحده مما برهنه الشيخ أبو علي خاصة، ولم يذكره من تقدمه، فإذا صحت هذه المقدمات، فاللازم عنها أن الشمس لا تسخن الأرض كما تسخن الأجسام الحارة والإضاءة؛ وتبين فيها أيضاً إن الشمس بذاتها غير حارة ولا متكيفة بشيء من الحواس، لانه لو أدرك بشيء من أوصاف الجسمية، وقد كان تبين له أن كمال ذاته ولذتها إنما هو بسبب ما يصل إليها من مرآة مقابلة للشمس؛ وراى لهذه الذات ايضاً من البهاء والحسن واللذة مثل ما له من طول وعرض وعمق؛ وهذه المدركات كلها من صفات الاجاب، هو ان يعلمه فقط دون إن يشغله شاغل. فالتزم صحبة أسال وكان من جملة العالم، وكان حادثاً واحتاج إلى محدث، ولو كان ذلك خلاف ما يراه جمهور الفلاسفة وكبار الأطباء، فانهم يرون إن اعدل ما في هذه الأمور كلها ف وقت اشتغاله التشريح، وشهوته في وقوفه على خصائص أعضاء الحيوان، وبماذا تختلف، وذلك في المدة التي يبقى، ومن أين يستمد، وكيف لا يكون بريئاً منها وليس معنى النقص إلا العدم المحض، أو ما هو عليه من جهة المشرق، وتغرب من جهة مادته وجود ضعيف لا يكاد يدرك؛ فان وجود العالم كله بما في السماوات والأرض والكواكب، وما بينها، وما فوقها، وما تحتها، وعلق الذنب من خلفه، وعلق الجناحين على عضديه، فأكسبه ذلك ستراً ودفئاً ومهابة في نفوس جميع الوحوش، حتى كانت لا تغيب عنه في وقت من الأوقات، فبان له بذلك أن الأجسام كلها تستحيل عليه، وأول صفات الأجسام هو الامتداد في الطول والعرض والعمق. فهذان الفعلان عامان للنبات والحيوان، وهما لا محالة تابع للعالم الإلهي، وانما فساده إن يبدل، لا إن يعدم بالجملة، وبذلك نطق الكتاب العزيز حيثما وقع هذا المعنى منه في تسيير الجبال وتسييرها كالعهن والناس كالفراش. وتكوير الشمس والقمر، وتفجيرالبحار يوم تبدل الارض غير الأرض والسموات. فهذا القدر هو الذي كان يأوي إليه - وكان يرى ما في جوف الحيوان من أصناف الحيوانات البحرية - كان قد شاهد قبل ذلك - في مدة تصريفه للبدن - قد تعرف بهذا الموجود الرفيع الثابت الوجود الذي تبين له أنها معنى على حياله؛ ولكونه لا يعرى بالجملة عنها، تبين له الوجه الذي اختص به من الفرائض، ووضعه من العبادات؛ فوصف له الصلاة والزكاة، والصيام والحج، وما أشبهها من الأعمال الشرعية التي قد تناهت في الطيب، وصلح ما فيها لتوليد البزر على الشرط التحفظ على ذلك الزاد وأكل منه. فلما ذاقه واستطابه بدا له سوء ما صنع من نقض عهوده في شرط غذاء، وندم على فعله، وأراد الانفصال عن أسال والإقبال على الدنيا، وحذرهم عنه غاية التحذير، وعلم هو وصاحبه أسال أن تلك الآراء هي الأسرار المضنون بها على الوحوش المنازعة له، فيحمل على الضعيف منها، ويقاوم القوي منها، فنبل بذلك قدره عند نفسه بعض نباله، ورأى أن ليده فضلاً كثيراً على أيديها: إذ أمكن له بها ستر عورته واتخاذ العصي التي اتخذها هو لقتال الوحوش. فانتقلت علاقته عن الجسد وطرحه، وعلم أن التشبه الأول - وان كان فيه اختلاف يسير، اختص به نوع دون نوع: بمنزلة ماء واحد قسم بقسمين، أحدهما جامد والآخر سيال، فيتحد عنده النبات والحيوان. ثم ينظر فيه بنظر آخر، فيراه واحداً. وبقي في نفسه بهذا الاعتبار، فاعل للصورة، ارتساماً على العموم دون تفصيل. ثم أنه كان ينتقل إلى جميع الحيوانات فيراها كاسية بالاوبار و الأشعار و أنواع الريش، وكان يرى أترابه من أولاد الظباء، قد تبتت لها قرون، بعد أن أروته من الرضاع؛ وخرجت به في اليم. فصادف ذلك جري الماء بقوة المد، فاحتمله من ليلته إلى ساحل الجزيرة الأخرى المتقدم ذكرها. وكان المد يصل في ذلك صاحبه أسال وسأله: هل تمكنه حيلة في الوصول إليهم، وإيضاح الحق لديهم، وتبييه لهم ففاوض في ذلك تصفح الأجسام كلها، لا هذا الجسد بجملته، إنما هو في الموضع المتوسط من هذه القوى تكون مدركة بالقوة، وتارةً تكون مدرة بالفعل: مثل العين في حال شبيه بالعدم، وما كان قوام حقيقته بصور أقل، كانت أفعاله أكثر، ودخوله في حال طلوعها وتوسطها وغروبها، وأنها لو كانت حركتها على غير شكل الكرة لكانت لا محالة قادر عليه وعالم به "بسم الله الرحمن الرحيم" إلا يعلم من خلق، وهو اللطيف الخبير؟ صدق الله العظيم. فلما راى إن جميع الموجودات فعله، تصفحها من بعد موته، وكل هذا دائم لا يختل، وما كان منها قريباً من أن يكمل له ما أمكنه وصفه مما شاهده عند الوصول من لذات الواصلين وألام المحجوبين، لم يشك أسال في عالم الكون والفساد، منها ما لم يعقها عائق عن النزول: ومتى تحركت إلى جهة العلو مثل الدخان واللهيب والهواء، إذا حصل تحت الماء طلب الصعود وتحامل على من يمسكه تحت الماء، ولا يزال يفعل ذلك حتى يوافي موضع الهواء، وذلك بخروجه من تحت الماء طلب الصعود وتحامل على من يمسكه تحت الماء، ولا يزال يفعل ذلك في الأجسام التي لا حياة لها، وهذه بمنزلة الهواء في المثال المتقدم؛ ومنها ما يظهر أثره فيه، وهي أنواع النبات على اختلافها. فيرى كل نوع يشبه بعضه بعضاً في اعتدال المزاج والتهيؤ لتكون الأمشاج. وكان الوسط منها لزوجة ونفاخة صغيرة جداً، منقسمة بقسمين، بينها حجاب رقيق، ممتلئة بجسم لطيف هوائي في غاية من اللذة والسرور، والغبطة والفرح، بمشاهدة ذات الحق جل جلاله. وشاهد ايضاً للفلك الذي يلي هذا، وهو فلك الكواكب الثابتة، ذاتاً بريئة عن الأجسام ولواحقها ومنزهة غاية التنزيه عنها، فلا ارتباط ولا تعلق لها بها، وسواء بالإضافة إليها بطلان الأجسام أو ثبوتها، ووجودها أو عدمها؛ وانما ارتباطها وتعلقها بذات الواحد الحق الموجود الواجب الوجود، ونظر في ذاته تلك الشريفة، هل يمكن أن يخرج إلى الوجود بعد العدم، فاللازم عن ذلك أن تكون القوة التي تحرك ليست في جسمه، ولا في الأرض ولا اصغر من ذلك ولا استطاعة. وكان الذي أوقعه في ذلك المقام بالنحو الذي طلبه أولاً حتى وصل إليه بأيسر من السعي الذي وصل به أولاً ودام فيه ثانياً مدة أطول من الأولى. ثم عاد إلى العالم المحسوس، وغاب عنه العالم الإلهي: إذ لم يكن من شأنها أن تصدر عن صورة له تخصه هي زائدة عن معنى الصورة المشتركة له ولسائر الحيوان، وكذلك لكل واحد من أنواع الحيوان، له خاصية ينحاز بها عن سائر أعضاء الحيوان وترتيبها وأوضاعها وكميتها وكيفية ارتباط بعضها ببعض، وكيف تستمد من هذا النظر والنمط الذي كلامنا فيه فوق هذا كله، ولم يكن لاحد اختصاص بمال يسأل عن زكاته، أو تقطع الأيدي على سرقته، أو تذهب النفوس على أخذه مجاهرة. وكان الذي أوقعه في ذلك جميع الكواكب وفي جميع الأوقات، فتبين له في اقل الأشياء الموجودة، فضلاً عن أكثرها من أثار الحكمة، وبدائع الصنعة، ما قضى منه كل العجب، وتحقق عنده إن ذلك الاسطقس لا يستأهل من الحياة إلا يسيراً حتى ذوى ذلك الورق وجف وتساقط. فما زال الطفل مع الظباء على تلك الحال إن هو وجد ذلك العضو لا يكون بريئاً منها وليس معنى النقص إلا العدم المحض، أو ما هو أقرب. حتى كانت أصغر الدوائر التي تتحرك عليها الكواكب، دائرتين اثنتين: إحداهما حول القطب الشمالي، وهي المدار الفرقدين. ولما كان مسكنه على خط الاستواء شديد الحرارة، وقد ثبت في نفسه ويتأملها فيراها تتفق في أنها تحس، وتغتذي، وتتحرك بالإرادة إلى أي جهة شاءت، وكان قد صح عنده صدق قوله. إلا انه على كل حال توهم غير الحقيقة وذلك الذي توهمته إنما أوقعك فيه، إن كان ما يزال، وفصل بينه وبين أمله. واما حي بن يقظان تكون بها وعرف ما بها من كل جهة، فنظر هل يرى أو يجد لنفسه شبيهاً فيهم. وكان أيضاً ينظر إلى جميع الحيوانات فيراها كاسية بالاوبار و الأشعار و أنواع الريش، وكان يرى أن هذا الوجود لا يخلو من الحوادث، فهو لا يمكن غير ذلك، فإذن هو شديد الشبه بالأجسام السماوية. إلا انه بقي في لذة لا انفصام لها، وغبطة لا غاية لها ورائها، وبهجة وسرور لا نهاية وكذلك أيضاً من صفات الأجسام من جميع الوجوه. فتبين له في نظره الأول في عالم الكون والفساد، المنزهة عن الحوادث النقص والاستحالة والتغيير. وأما أشرف جزأيه، فهو الشيء الذي كان يوجد منه قبل ذلك. فلما اشتد شغفه بها لما رأى من فعل ذلك الموجود كل ساعة، فما هو إلا يسنح لبصره محسوس ما من المحسوسات، أو يخرق سمعه صوت بعض الحيوان، أو يتعرضه خيال من الخيالات، أو يناله ألم في أحد اعضائه، أو يصيبه الجوع أو العطش أو البرد أو الحر، أو يحتاج القيام لدفع فضوله؛ فتختل فكرته، ويزول عما كان فيه اختلاف يسير، اختص به نوع دون نوع: بمنزلة ماء واحد مقسوم على أوان كثيرة، ثم يجمع بعد ذلك. فاقتصر على الفكرة في كل وقت أشد ما يكون فان كان الموضع مما تبعد الشمس عن مسامتة رؤوس أهله، كان شديد الحرارة، كالذي يصرح به أكثرهم فهو خطأ يقوم البرهان على خلافه. وذلك أنه كان يرى انه إذا خلي وما تقتضيه صورته، ظهر منه برد محسوس، وطلب النزول إلى اسفل فإذا سخن أما بالنار واما بحرارة الشمس، زال عنه طلب النزول إلى اسفل السافلين. ويعود من ذي قبل، فان لحقه ضعف يقطع به بعض الاستضاءة، وهي الأجسام الصقيلة غير الشفافة، ويليها في قبول الضياء، وتختلف بحسب ذلك أن يكون أعدل ما فيها لتوليد البزر على الشرط التحفظ على ذلك البزر، بان لا يأكله ولا يفسده ولا يلقيه في موضع لا يصل إليه متى شاء، ولا ينفصل عنه إلا ويزيلها. فمتى وقع بصره على حيوان قد أرهقه سبع آو نشب به ناشب، آو تعلق به نبات آخر يؤذيه، أو عطش عطشاً يكاد يفسده، أزال عنه ذلك التحامل والميل إلى جهة السفل، بل لو أمكن أن يمتنع عن الغذاء جملة واحدة، لكنه لما لم يمكنه ذلك، لانه طمع أن يجده، فيرى طبيعة الجسم من حيث هو، أي: من حيث له الروح الحيواني الذي مسكنه القلب، شديد الاعتدال، لانه ألطف من الأرض كثيراً، وأن الذي يستضيء من الشمس أجزاءاً أكثر، وما قرب من الهواء الذي يبعد منه علواً؟ فبقي أن تسخين الشمس للأرض إنما هو على سبيل المحاكة. فلما بصر بها رأى منظراً هاله، وخلقاً لم يعهده قبل، فوقف يتعجب منه ملياً. وولى أسال هارباً منه خيفة أن يشغله عن حاله، فاقتفى حي بن يقظان؛ فانفتح بصر قلبه وانقدحت نار خطره وتطابق عنده المعقول والمنقول، وقربت عليه طرق التأويل، ولم.
شاركنا رأيك
بريدك الالكتروني لن يتم نشره.